الإيمان بين الضمير والتجنيد :
إن حركات التدين السياسي (سلفية، وهابية، إخوان ...) تسعى لنشر نوع من التدين والإيمان، ألا وهو الإيمان بالتجنيد والقوة والإكراه، رغم أن التنزيل الحكيم يعارض هذا {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 256)، فالإيمان الحق هو إيمان الضمير وبناء له، وهذا النوع - إيمان الضمير - هو الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، فنجد قوله عز وجل {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} (الإسراء 13) {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} (القيامة 14). ونجد قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المنسوب له (اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ وإن أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ).
وهذا الإيمان جاء من أجل بناء إنسان مستقل ذو ضمير وحكمة، وإنسان يحاسب نفسه بنفسه قبل الحساب الأخير عند رب العالمين، متيقنا أنه لا توجد وساطة بينه وبين ربه {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة 186).
أما التيارات السياسية المتدينة - وليست الدينية - فلا تؤمن بهذا الإيمان ولا تعترف به، فمن وجهة نظرهم - كما ذكرنا سابقا - الإيمان كالتجنيد والخدمة العسكرية، فهم يأمرون أتباعهم بافعل ولا تفعل، ويجب على التابع أن يطيع وينقاض لأوامرهم وإلا سيغضبون عليه ويخرجونه من دائرة الرحمة التي يتوهمون أنهم يملكونها، وإذا غضبوا عليك فسيغضب الرب عليك، كما لو أن الرب عز وجل دمية في أيديهم ليسييرونه كيفما شاؤوا وأرادوا.
ولنأخذ بعض الأمثلة ليتبين أسلوبهم الوقح :
إذا قال لك شيخ منهم، يجب أن تكون لحية طويلة مقصوصة الشارب ولم تستجب لدعواه، فأنت من المغضوب عليهم.
وإذا قال لك أنه يجب عليك تغيير عملك (شغلك) لأنه عمل غير صالح - من وجهة نظره - لأن السلف لم يشتغل تلك المهنة - حتى وإن لم تكن في ذلك العصر - فيجب أن تطيع الفتاوى والأوامر وإلا ستصبح من الضالين والخارجين عن الدين، ويجوز قتلك حينئذ لأنهم يؤمنون بحد الردة، رغم أن القرآن ينكره {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} (النساء 137).
لذلك تجدهم يؤمنون بأن كل فتوى تصدر منهم يجب أن تطاع وتسمع فورا وبدون نقاش، وهذا ما ذكره أسامة بن لادن في مذكراته، حيث قال أن أي شيء تريدون نشره في الأمة، فلينشر تحت مسمى الشيخ يوسف القرضاوي، كي تأخذ الصبغة والختم الديني، وكأن القرضاوي إله معبود.